حملات المقاطعة.. خطواتٌ واضحة وأمثلةٌ ناجحة

مجموعة من قطع البطيخ تدعوا إلى مقاطعة المنتجات

هل سبق أن شاركت في حملة مقاطعة الشركات الداعمة للكيان المحتل، ثم ما لبثَتْ أن ضعفت همتك وتلاشت عزيمتك بعد بضعة أيامٍ أو أسابيع؟ إن كانت إجابتك "نعم"، فغالبًا ما يكمن السبب في شعورك بضعف التأثير أو الضجر من عدم توفر البديل!

إذن اسمح لي أن أرشدك في هذا المقال "حملات المقاطعة.. خطواتٌ واضحة وأمثلةٌ ناجحة" إلى طريقة التغلب على ذاك الشعور وإعطائك بعض النصائح الواضحة لرفع الهمم والنماذج الناجحة من تاريخ الأمم. 

المقاطعة: نبذةٌ تعريفية

تتميز حملات المقاطعة بكونها إحدى أقوى أدوات التغيير الاجتماعي والسياسي التي استخدمتها الشعوب على مر العصور للاحتجاج على الظلم والتمييز والقمع، وقد لعبت دورًا محوريًا في تشكيل مسار الأحداث التاريخية، والتأثير على سياسات الشركات والدول، ودعم القضايا المتعلقة بالمساواة وحقوق الإنسان.

ويمكن تعريف المقاطعة على أنها التوقف الطوعي عن شراء منتجٍ أو خدمةٍ، أو الإحجام عن التعامل مع شركاتٍ أو كياناتٍ معينة بهدف إظهار الرفض التام لبعض سياساتها المتبعة وممارسة ضغوطٍ اقتصاديةٍ عليها لتعديل تلك السياسات أو التخلي عنها؛ أي أن المقاطعة وسيلةٌ سلميةٌ للتعبير، وقد تنجح في إحداث التغيير.

المقاطعة: نظرةٌ تاريخية من الناحية اللغوية

- بدأ استخدام كلمة "Boycott" في اللغة الإنجليزية للإشارة إلى حملات المقاطعة بسبب قصةٍ حقيقيةٍ جرت أحداثها في أيرلندا في ثمانينيات القرن التاسع عشر.

- كان بطل قصتنا، الإنجليزي "تشارلز بويكوت Charles Boycott"، نقيبًا في الجيش البريطاني عندما تقاعد منه عام 1880، وعمل بعدها وكيلًا لبعض مُلاك الأراضي والإقطاعيين في أيرلندا.

- لكن حدوث بعض الإضطرابات في البلاد وانخفاض نسبة المحاصيل آنذاك دفعت المستأجرين إلى المطالبة بخفض قيمة الإيجار؛ وهو ما رفضه الملاك بشكلٍ قاطعٍ وأصدروا تعليماتهم إلى بويكوت بطرد كل من يتحلف عن سداد الإيجار من المزارعين والعمال.

- صار بويكوت شخصًا منبوذًا من السكان المحليين ورمزًا للاستبداد والظلم، وتعرض لحملة مقاطعةٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ؛ إذ رفض المزارعون العمل بالأراضي، كما امتنعت الشركات المحلية عن التعامل معه وتقديم خدماتها إليه، حتى أن ساعي البريد كان يتجاهل رسائله.

- حاول بويكوت مواجهة تلك الحملة باستقدام بعض العمال من الخارج، لكن الأمر كان مُكلفًا، ولم يكن أمامه مفرٌ من الاستسلام للأمر الواقع ومغادرة البلاد مع عائلته، في ظل حالة العزلة التي يتعرض لها من السكان وعدم وجود مستأجرين أو مزارعين أو خدمات.

- ومنذ ذلك الحين، صار اسم "بويكوت Boycott" مقترنًا بحملات المقاطعة حول العالم، وشاهدًا على تأثيرها الكبير وقدرتها على مواجهة الاستبداد وتحقيق الإصلاحات المنشودة.

المقاطعة: أسرار نجاحها وعوامل استمرارها

تعتمد حملات المقاطعة بالأساس على الضمائر الحية للشعوب والرغبة الصادقة للمشاركين في بذل ما بوسعهم لإحداث التغيير، بقطع النظر عن النتائج والتبعات، لكن يمكن أن يصبح تأثير المقاطعة جليًا وملموسًا إذا ما توفرت مجموعةٌ من العوامل التي قد تسهم في نجاحها وتحقيق أهدافها، ولعل أبرزها:

  •   هدفٌ واضح أو ظلمٌ فاضح 

ينبغي أن يكون للمقاطعة هدفٌ واضحٌ يسهل استيعابه ويعرض للرأي العام المطالب العادلة أو المظالم الشنيعة التي تدفع إلى الاحتجاج؛ ويساعد هذا الوضوح في حشد الدعم وتجاوز الانقسامات الاجتماعية والثقافية والسياسية لضمان اتحاد المشاركين في هدفهم، الذي من المهم أن يكون محددًا وقابلًا للتحقيق.

  •   الوعي المجتمعي والزخم الإعلامي

قد تصبح المقاطعة أكثر تأثيرًا وانتشارًا إذا ما حظيت باهتمام وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي نظرًا لدورها المهم في توضيح هدف المقاطعة وزيادة الوعي بين الأفراد. ويمكن تحقيق ذلك الزخم من خلال تكثيف النشر على جميع المنصات، وتنظيم المظاهرات العامة، وإجراء اللقاءات مع البرامج الحوارية.

  •   كثرة المشاركين واستقطاب الداعمين

من المهم أن تحظى حملات المقاطعة بدعم أكبر عددٍ ممكنٍ من المؤيدين حتى تصير فعالةً ومؤثرةً، وأن يشمل الدعم شرائح واسعةً من المجتمع من مختلف الفئات العمرية والخلفيات الثقافية؛ فكلما زاد عدد المشاركين في حملات المقاطعة، زاد تأثيرها المجتمعي وأصبحت أكثر قدرةً على إحداث التغيير المنشود.

  •   تنظيم الناس وطول الأنفاس 

تتطلب حملات المقاطعة الناجحة تنظيمًا متماسكًا وقيادةً قويةً لتنسيق الإجراءات والخطوات اللاحقة، مع الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي لتنظيم الحملة وتشجيع الناس على الاستمرار في المقاطعة؛ إذ تتطلب حملات المقاطعة التزامًا طويل الأمد من المشاركين، بما يضمن قدرتها على مواصلة الضغط لحين تحقيق أهدافها.

  •   تجديد النية ودفع الدية

إن من أهم الأمور المحفزة على الاستمرار في المقاطعة هي استحضار النية من وراء هذا العمل وجعله خالصًا لوجه الله حتى لا يكون مرتبطًا بمدى الانتشار أو التأثير، واعلم أن خذلان المظلوم وعدم السعي لنصرته ورفع الظلم عنه -ولو بأقل القليل- قد يرقى إلى الشراكة في الجُرم وإهدار الدم؛ لذا بادر بتجديد نيتك ودفع ديتك، واحذر من الدائرة أن تدور فلا تجد حينها إلا الخذلان والنفور.

  •   التأثيرات الاقتصادية

عندما نتوقف أنا وأنت وملايين الأشخاص حول العالم عن شراء منتجاتٍ أو خدماتٍ معينةٍ لفترةٍ طويلةٍ -قد تمتد لأشهرٍ أو سنوات- فهذا سيؤدي حتمًا إلى إلحاق أضرارٍ اقتصاديةٍ هائلةٍ بالشركات أو الحكومات المستهدفة ويجبرها على تغيير سياساتها خشية الوقوع في أزماتٍ ماليةٍ خانقة.

  •   الضغوط السياسية 

يُمكن أن يتضاعف تأثير حملات المقاطعة ونجاعتها إذا أسفرت عن تشكيل ضغطٍ سياسي على صناع القرار (من مجالس نيابيةٍ أو حكوماتٍ محليةٍ أو منظماتٍ أمميةٍ) لفرض العقوبات على الشركات والكيانات المستهدفة أو حظر التعامل معها، وكذلك تأسيس مجموعات ضغطٍ في جميع البلدان تهدف إلى اكتساب تعاطفٍ عالمي لتوجيه الرأي العام لنصرة القضية.

مجموعة من الأطفال يرتدون الكوفية الفلسطينية

المقاطعة: أمثلةٌ ناجحة

يحفل التاريخ بأمثلةٍ كثيرةٍ على حملات المقاطعة الناجحة التي كان لها تأثيرٌ عميقٌ على المجتمعات، وإجراء إصلاحاتٍ جوهريةٍ وتغيير مسار الأحداث في العالم أجمع؛ وفيما يلي خمسة أمثلةٍ موجزةٍ لأبرز حملات المقاطعة وأكثرها نجاحًا:

  •   المقاطعة الهندية للبضائع البريطانية 

  •   مقاطعة حافلات مونتغمري

  •   حركة مناهضة الفصل العنصري

  •   حركة مقاطعة إسرائيل BDS

  •   مقاطعة نستله 

1.  المقاطعة الهندية للبضائع البريطانية (مطلع القرن العشرين):

مثلت حملة المقاطعة جزءًا مهمًا من حركة الاستقلال الهندية بقيادة مهاتما غاندي، الذي دعا إلى استخدام المقاومة السلمية ضد الاستعمار البريطاني في مطلع القرن العشرين. هدفت حملة المقاطعة إلى ضرب الاقتصاد البريطاني عن طريق الامتناع عن شراء البضائع البريطانية ودعم المنتجات الهندية بغية تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقوية الاقتصاد المحلي.

لكن حملة المقاطعة لم تكن مجرد حركةٍ اقتصاديةٍ فحسب، بل كان لها دورٌ جوهري في الحياة الاجتماعية والسياسية؛ حيث ساهمت في توحيد الناس من مختلف الطبقات تحت رايةٍ مشتركة، فضلًا عن زيادة الوعي السياسي بين الهنود وتشجيعهم على المشاركة في النضال من أجل الاستقلال. وقد شكلت هذه التحركات والضغوط الاقتصادية والسياسية عوامل مهمةً في إنهاء الاحتلال البريطاني للهند عام 1947، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.

2.  مقاطعة حافلات مونتغمري (1955-1956):

انطلقت حملة مقاطعة حافلات مونتغمري بولاية ألاباما في أعقاب رفض المواطنة الأمريكية ذات الأصول الإفريقية "روزا باركس" التخلي عن مقعدها في الحافلة لرجلٍ أبيض. وركزت حملة المقاطعة على إنهاء الفصل العنصري في المواصلات العامة، دون التطرق إلى مظاهر الفصل العنصري الأخرى التي كانت سائدةً في المجتمع الأمريكي.

ولم تقتصر الحملة على المواطنين الأمريكيين من ذوي البشرة السمراء، بل شملت جميع الفئات الداعمة لتلك المطالب العادلة التي تنادي بالمساواة وحقوق الإنسان. وقد حافظت المقاطعة على زخمها وطول أمدها، حيث استمرت لأكثر من عام، واستطاعت في النهاية تحقيق هدفها وإنهاء الفصل العنصري في المواصلات العامة، كما لعبت دورًا محوريًا في حركة الحقوق المدنية الأمريكية وأعطت دافعًا كبيرًا نحو إجراء مزيدٍ من الإصلاحات.

3.  حركة مناهضة نظام الفصل العنصري (من الستينيات إلى التسعينيات من القرن الماضي):

بدأ نظام الفصل العنصري "الأبارتايد Apartheid" عام 1948 عندما تولى الحزب الوطني الحكم في جنوب إفريقيا، وأصدر تشريعاتٍ صارمةٍ حرمت المواطنين ذوي البشرة السمراء من حقوقهم الأساسية، لا سيما الحق في التصويت والتعليم الجيد والسكن في مناطق معينة. وعلى إثر هذه الممارسات، نشأت حركاتٌ سياسيةٌ واجتماعيةٌ عديدةٌ لمجابهة هذا التمييز العنصري، كان أبرزها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) بقيادة نيلسون مانديلا، الذي أمضى قرابة 27 عامًا داخل سجون جنوب إفريقيا.

واستخدمت حركة مناهضة نظام الفصل العنصري وسائل متنوعة، بدءًا من المقاومة السلمية وصولًا إلى الكفاح المسلح، كما حظيت بدعمٍ دوليٍّ واسعٍ، وانتشرت حملات المقاطعة في العالم أجمع، إلى جانب الدعوات إلى سحب الاستثمارات وفرض عقوباتٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ على حكومة جنوب إفريقيا. وقد شكل هذا الضغط الذي مارسه المجتمع الدولي عاملًا حاسمًا في تفكيك نظام الفصل العنصري وتأسيس دولةٍ ديمقراطيةٍ ترتكز على المساواة وحقوق الإنسان. وفي عام 1994، أُجريت أول انتخاباتٍ ديمقراطيةٍ متعددة الأعراق، وأصبح نيلسون مانديلا أول رئيسٍ ذو بشرةٍ سمراء لجنوب إفريقيا.

4.  حركة مقاطعة إسرائيل BDS (2005):

تُعرف حركة مقاطعة إسرائيل BDS بأنها حركة احتجاجٍ عالميةٍ تأسست عام 2005 بناءً على دعوةٍ من المجتمع المدني الفلسطيني بهدف ممارسة الضغط على إسرائيل لإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية، وإنهاء التمييز العنصري ضد الفلسطينيين، والاعتراف بحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم. وتتمثل أهداف حركة مقاطعة إسرائيل BDS في ثلاثة أمورٍ أساسية:

  •   المقاطعة (Boycott): تشجيع الأفراد والمؤسسات على عدم شراء المنتجات الإسرائيلية والامتناع عن التعامل مع الشركات والكيانات الإسرائيلية.

  •   سحب الاستثمارات (Divestment): دعوة الشركات والجامعات والمؤسسات المالية إلى سحب استثماراتها من الشركات الإسرائيلية أو الشركات الداعمة للاحتلال الإسرائيلي.

  •   العقوبات (Sanctions): ممارسة الضغط على الحكومات والمجالس النيابية لفرض عقوباتٍ موجعةٍ على إسرائيل.

وقد حققت الحركة نجاحًا ملموسًا في زيادة الوعي العالمي حول القضية الفلسطينية وممارسة بعض الضغوط الاقتصادية والثقافية والسياسية على إسرائيل؛ إذ ساهمت في التأثير على كثيرٍ من الجامعات المرموقة والشركات العالمية والصناديق الاستثمارية لإنهاء عقودها مع الحكومة الإسرائيلية أو سحب استثماراتها من إسرائيل، كما نجحت الحركة في إقناع عددٍ من الفنانين والمثقفين والأكاديميين بعدم المشاركة في الفعاليات أو المؤتمرات التي تُقام داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

5.  مقاطعة نستله (1977-1984):

تعرضت شركة نستله لحملة مقاطعةٍ واسعةٍ بسبب تسويقها لمنتجات الحليب الصناعي في البلدان النامية، في ظل صعوبة الحصول على المياه النظيفة وعدم توفر الظروف الصحية الملائمة لإعداد تلك المنتجات بالشكل الصحيح.

 وقد أثارت الحملة مخاوف عديدة بشأن الضرر المحتمل لتك المنتجات على صحة الرضع، ما أدى إلى تراجع مبيعات شركة نستله وتشويه سمعتها حول العالم، واضطرت في النهاية إلى الرضوخ لتلك الدعوات وتغيير ممارساتها التسويقية. كما ساهمت الحملة في استحداث قواعد جديدةٍ فرضتها منظمة الصحة العالمية على الحملات الدعائية.

خلاصة القول:

إن المقاطعة وسيلةٌ مهمةٌ للتعبير السلمي والتغيير الاجتماعي والسياسي، وبرهانٌ على قدرة الشعوب والأفراد على صنع الفارق عند الاتحاد لدعم قضيةٍ مشتركةٍ بهدف تكبيد الكيانات المستهدفة خسائر اقتصاديةٍ فادحةٍ، في ظل عالمٍ رأسمالي لا يعترف إلا بلغة الأرقام.

لكن من المهم أن يظل الوازع الأخلاقي دافعك الأساسي للمشاركة في حملات المقاطعة دون النظر إلى نتائجها الفعلية وتبعاتها الاقتصادية، حتى لا يساورك الشك إذا طال أمدها أو تأخرت في تحقيق أهدافها؛ وتذكر قول الشاعر الفلسطيني محمود درويش:

 "أثر الفراشة لا يُرى، أثر الفراشة لا يزول". 

المصادر:

Major Boycott Changed History

History of Successful Boycott

Top 10 Famous Boycott


No comments:

Post a Comment